رؤية مغايرة لجحيم مصري . .



رؤية مغايرة لجحيم مصرى
بقلم : جوزيف فهيم
نشرت فى : 1/ فبراير / 2008

بعد يوم من التجربة الجياشة لفيلم (التعويض) (atonement) والتى بدأت تخبو مؤخراً، وقعت فى شرك تجربة سينمائية أخرى رائعة ومؤثرة وليست أقل أهمية من مرشح الاوسكار الجارى .
الاسبوع الماضى تلقيت مكالمة هاتفية من ابراهيم البطوط لحضور عمله الثانى الذى طال انتظاره (عين شمس). البطوط هو الذى أثار عمله الطويل الامل (إتاكى) ضجة فى الاوساط المستقله لصناعة الافلام منذ 3 سنوات.

فى غرفة المؤتمرات الضيقة لشركة انتاج الافلام المستقلة.
(Film Home Egypt) البيت الفيلم المصرى ، جلست مع خمسة صحفيين آخرين لمشاهدة الفيلم الذى تبين أنه واحد من أجمل الافلام المصرية فى هذا العقد.
يبدأ الفيلم وكاميرا البطوط مثبته على سيارة أجرة (تاكسى) تهيم فى شوارع القاهرة بلا هدف ، مع تلاشى ضوء النهار – الذى يفسح المجال لعتمة العاصمة المقبضة تثب مغنية اسمها مريم فى التاكسى ترى صورة فتاة صغيرة مثبتة بحرص بجانب السائق، تخبره أن الفتاة جميلة ، يرد السائق بابتسامة شجية ويخبرها انها ابنته (شمس) ويبدأ بحكى قصتها.
متأثرة بقصة شمس، تقرر مريم ان تؤدى لحن عراقي حزين فى المركز الثقافى الصغير الذى تعمل فيه ، اغنيتها تمس اعماق امرأة أخرى اسمها مريم تستمع اليها.
بتداعى الذكريات فى مخيلة مريم الاخيرة متذكرة تجربتها المروعة فى العمل كطبيبة فى العراق، فإن الرواى يخبرنا ان الطبيبة الشابة كانت تقوم ببحث فى العراق عام 2003 تحقق فيه فى العلاقة بين زيادة اشعة اليورانيوم والاصابة بالسرطان.
بعدها يعود البطوط الى القاهرة يبدأ فى تقديم شخصيات اللرئيسية.
- شمس البطلة غير الرسمية للفيسلم متعدد الشخصيات والمقيمة فى عين شمس فتاة فى الحادية عشر من عمرها ، رومانسية حالمة، امنيتها الوحيدة هى زيارة وسط البلد.
رؤيتها لقلب العاصمة لا تحمل اى تشابه مع الواقع ، فقد استلهمت رؤيتها بشكل اساسى من الشروحات الرائعة لكتاب الللغة الانجليزية.
- رمضان والد شمس هو السائق الخاص لرجل الاعمال سليم بيه هذا بجانب عمله كسائق تاكسى.
- سليم رجل اعمال فاحش الثراء يواجه الافلاس ، ابن اخيه هانى محاسبه الشخصى هو مرشح مجلس الشعب لمنطقة عين شمس.
- على الجانب الآخر نجد عمر ابن أخو رمضان شاب نصف عاطل يقوم بتوصيل وصلات دش غير شرعية فى منطقتة ويطمح للهجرة لإيطاليا.
- شخصية ثانوية اخرى فى الفيلم هى مدرسة شمس غير المتزوجة والتى تحاول ان تثنيها عن الالتصاق بأحلامها، وترفض الخيالية المفرطة التى تغمر كتاباتها.
يغزل البطوط خيوط مرخية بالتدريج ليحولها لنسيج مصرى معاصر ومتماسك عن الخسارة والفقر واليأس والامل.
لم ينجح فيلم منذ حقبة الثمانينيات- ذورة الواقعية فى السينما المصرية. فى تصوير الواقع البائس بلا رتوش بهذه الدرجة المرعبة من الاصالة.
كل موقع فى الفيلم يظهر كما فى الحقيقة تماماً، الازقة الضيقة، الشقق المغبرة ، والتواجد الهائل فى مساحة ضيقة من الفراغ، هذه هى مصر كما لم تصور من قبل (لجحيم معاصر بلا مخلص او منقذ).
تقريباً كل شخصيات فى الفيلم تبحث عن شيء ما يخلصها من البؤس المنغمسة فيه. أحلامهم بسيطة ومع ذلك صعبة المنال.
على عكس الحشد الحالى لما يسمى بأفلام الواقع مثل (حين ميسرة) (هى فوضه) فإن البطوط يقدم هذه الواقائع بهمسة وليس بصرخة انه يلمس أوتاراً متعددة منها فساد النخبة السياسية والطغيان الهائل للنظام السياسى والاجتماعى وقتل الابرياء، كل موضوع فى قصة البطوط تمت معالجته بطريقة دقيقة وناعمة ولكن قوية فى نفس الوقت، إن أياً من الميلودرامات المثيرة للمشاعر فى (هى فوضى) و(حين ميسرة)، غير موجودة فى (عين شمس) ولعل هذا هو السبب فى انه اكثر تأثيراً وتدميراً .
الفيلم مكون من طبقات مختلفة، تأخذ فيه كل فكرة وقتها حتى تتطور لتصل الى الاستنتاج النهائى المرير فالبطوط يأخذ مشاهديه الى مناطق غير مرئية عن طريق اتجاهات غير متوقعة.
إن بناء كل من (عين شمس) واتاكى، يشبه البناء القصصى غير المتصل ومتعدد الشخصيات للمخرج المكسيكى اليخاندرو جونز اليس (بابل ، اموريس بيروس) وهو التأثير الذى لا ينكره البطوط ومع هذ1ا فإن الطريقة التى يعالج البطوط بها قصته لا تفقد خصوصيتها.
اننى أؤمن ان الحياة هى سلسلة من القصص غير المنتهية، هكذا يعلق البطوط "ان حياتى ما هى الا قصة غير منتهية".

ان الانسانية والجراعات الصغيرة للبهجة غير المغشوشة التى يغذى بها فيلمه انما هى شاعرية، "لا شيء فى هذه الحياة يأتى منفصلاً ، اللذة تأتى مع الالم ، الالم يأتى مع اللذة ، هذه الدينامية تولد الشاعرية.

يضيف البطوط هناك جملة محددة خص بها البطوط أولئك الذين خاضوا تجارب صائمة قالها فى مقابلة مع جريدة الاهرام ويكلي ، هذه الجملة ترددت أصداؤها عميقاً فى ذاكرتى أثناء مشاهدة الفيلم.
"ان الناس الذين يخوضون تجارب ممثلة فإنهم بطريقة ما يتعرفون الى بعضهم عندما يتقابلون" ربما يكمن المغزى الضمنى لفيلم عين شمس بين هذه الكلمات.

كل الشخصيات الرئيسية فى الفيلم تحاول ان تتماشى مع حياتها المعدمة والبوهيمية. انهم يستمرون فى عيش مثل هذه الحياة فقط لانهم لا يملكون البديل. البطوط يقترح خيارين أمام أولئك الذين لا يرضون بهذه الحياة إما الاستسلام لدناءة النظام أو مغادرة البلاد.

العاصمة القاسية لا تقدم رحمة أو أمل ، القوة والغراء الوحيد الذى نجده للشخصيات تجده فى ذواتها أو ذوات أخرى قليلة. وسط المدينة رمز لفنتازيا خادعة تطمح اليها شمس ربما لأن الحلم هو الشيء الوحيد الذى فى امعانها. المصدر الوحيد للخلاص الذى لا تزال تؤمن به.

البطوط قال ان مشهداً صدمه عندما عاد من العراق عام 2003.
وانه مؤمن ان مصير بلاده ربما لا يكون بعيداً عن مصير العراق ، اختلاف وحيد يظل موجوداً هو ان كل الدمار والضرر تم ارتكابه على يد الحكومة ولا مبالاة شعبها المقموع.
ان الامل المحلو والمرير الموجود فى المشاهد الاخيرة التى تفطر القلوب هو أمل مثير للسخرية والراحة فى نفس الوقت، افلام مصرية قليلة استطاعت ان تنجح فى الجمع بين هذه الواقعية السحرية وهذه المشاعر المتضاربة وهذا النقد الخشن.

تظل السخرية الاعظم فى فيلم عين شمس ليست داخل الفيلم ولكن فى حقيقة ان البيروقراطية ذاتها التى ينقدها البطوط هى التى تعيق صدور فيلمه.
عاصفة من الجدل أحاطت بفيلم عين شمس منذ مهاجمة البطوط فى المؤتمر الصحفى لمهرجان القاهرة السينمائى فى نوفمبر الماضى، لسفره لاسرائيل لتصوير فيلم نادية كامل الجدير بالثناء "سلطة بلدى" بعض النقاد طالبوا باستبعاد الفيلم عين شمس من المهرجان والذى كان مقرر عرضه ضمن مسابقة افلام الديجيتال بعد ذلك بعدة اشهر شاهد الناقد سمير فريد الفيلم وقدمه الى صناع مغاربة.

اللذين اعجبوا كثيراً بلافيلم ، بعد ذلك نال البطوط منحه من المركز الثقافى المغربى تغطى 0.80 من تكاليف تحويل فيلمه من ديجيتال الى 35 مم يتم عرضه فى صالات السينما العادية فى كل انحاء العالم، فى النهاية لم يستطيع الفيلم اللحاق بالموعد المحدد لدخول مهرجان القاهرة السنيمائى ان عدم اللحاق بالمهرجان كان عثره خفيفة مقارنةً بما هو أتى.
أن عين شمس قد صور فى المساكن الشعبية لمنطقة عين شمس بميزانية ضئيلة وبدون ممثليين محترفين. كلاً من البطوط واعضاء الفيلم ليسوا مدرجين فى نقابة الممثليين، وبسبب طبيعة الفيلم المستقلة فإن سيناريو الفيلم لم يتم ارساله الى الرقابة المصرية.

يقول شريف منضور منتج الفيلم " لم يحصل اياً من الممثلين على نص كامل اثناء تصوير الفيلم واياً منهم لم يعرف كيف سينتهى الفيلم.

قال البطوط" ان هذا ليس بطريقة جديدة، فى الواقع فإن رواد الواقعية الجديدة الايطاليين وكذلك مخرجوا الموجه الجديدة الفرنسيين لم يعملوا بنص ثابت اثناء تصوير اعمالهم.
بما ان البطوط لم يستطع التوصل الى موافقة من الرقابة فإن نسخة الفيلم 35 مم لم يسمح لها بدخول البلاد وهى لا تزال فى الغرب. المخرج ذو الاربع واربعين عاماً ارسل بنسخة من النص لرئيس الرقابة على ابو شادى، العضو الحكومى لم يتوصل الى قرار بعد.
حتى اذا وافقت الرقابة على تمرير الفيلم فإن البطوط ومنضور لم يستطيعوا الحصول على موافقة نقابة الممثليين الا اذا استطاعوا دفع مبلغ 250 الف جنية لكسرهم قواعد العمل الخاص بالنقابة والتى تطبق لكل صناع الافلام الذين يعملون بدون رخصة.

يقول منضور انا نفسى عضو فى النقابة وانا افهم واحترم قواعدها، اذا لم يكن الحصول عل الرخصة لازماً لاصدار اى فيلم فى السوق فإن اى شخص لديه الامكانيات سوف يصنع فيلم مباشرةً مما سيؤدى الى تدهور مستوى الافلام، ولكن مع ذلك لابد من وجود استثناءات، انا حقاً لا استطيع دفع هذا المبلغ.

القواعد البائدة فى كلاً من الرقابة والنقابة جزء من النظام الذى يحرم الافلام المستقلة من الحصول على فرصة عرض مناسبة، يقول البطوط ان السينما فى مصر تتم بصورة معينة انهم حتى لا يتخيلون وجود طريقة أخرى لصناعة الافلام وهذا ما يجب تغيره.
ان السخرية الاعظم تكمن فى ان فيلم عين شمس تم اختياره فى للعرض فى مهرجان كان السينمائى فى مايو المقبل ، مما يعنى ان هناك امكانية كبيرة فى عرض الفيلم تجارياً فى اوروبا ومناطق اخرى ولكن ليس فى مصر.

ان فرص مشاهدتك للفيلم تكاد تكون معدومة ، الطريق الوحيد لوصول نسخحة الـ 35 مم للاسواق هى عن طريق الضغط العام .

ازعج كلاً من النقابة والرقابة بمكالماتك الهاتفية، اكتب عن الموضوع فى مدونتك الخاصة او فى النشرات المحلية ، ارسل خطابات وبريد اليكترونى الى وزارة الثقافة .
ان فيلم عين شمس هو بحق تحفة سينمائية من احد اعظم واكثر الموهوبيين من المخرجيين فى وقتنا الحالى .
ان المعركة لخروج فيلم عين شمس للنور قد بدأت للتو وهى بالتأكيد تستحق ان نخوض غمارها.